لا يوجد أي لبناني ان كان على أرض لبنان أو على أرض الله الواسعة الا ويقف إلى جانب أي معركة تشن على الفساد بغية المحافظة على هذا البلد وانتشاله من أزماته المالية والاقتصادية ووضع حدّ للذين يهدرون مال الخزينة العامة، غير ان ما ظهر إلى الآن لا يوحي بأن هذه المعركة ستحقق الهدف المرجو منها كونها تتجه لكي تتحوّل من معركة على الفساد إلى معركة سياسية وطائفية ومذهبية، والمتعارف عليه في لبنان ان مثل هكذا معارك لا توصل إلى أي نتائج لا بل تزيد الطين بلة وتفاقم الأمور بدلاً من أن تعالجها.
ان محاربة الفساد لا تحتاج إلى القيل والقال، وتبادل التهم المسبقة والتوظيف السياسي والشعبوي، جل ما تحتاجه هذه المعركة هو تنفيذ القوانين والتزام الجميع بموادها بعيداً عن التسييس والتطييف والتمذهب، ويأتي في مقدمة القوانين، التي إن تمّ الالتزام بها، يتم القضاء على الفساد والمفسدين في إدارات ومؤسسات الدولة، القانون رقم 13 الصادر في 8/8/1990 المتعلق بالمجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء المؤلف من سبعة نواب وثمانية قضاة وهو مجلس مناط به محاكمة رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة والوزراء، وفي حال اعطي هذا المجلس صلاحياته كاملة ونأى بنفسه عن الصراعات والتجاذبات السياسية، والتزم الجميع بما يُقرّر تجاه أي ملف يمسك به فإن ذلك يُشكّل خطوة مهمة على طريق تنقية الدولة من مرض الفساد المستشري بكل قطاعاتها ومفاصلها منذ عشرات السنين.
أما الأمر الآخر الذي يُشكّل أيضاً حجر زاوية في عملية وضع حدّ لهذا الفساد فهو تطبيق هذا القانون الذي وضع أواخر التسعينات بعنوان: «قانون الإثراء غير المشروع» الذي لم يعرف التنفيذ منذ ان وضع، إذ ان أحداً ممن حامت حوله الشبهات لم يخرج من وظيفته أو خضع لمساءلة ومحاسبة، كون ان الغطاء السياسي أو الطائفي كان على مرّ الزمان يشكل سياجاً لهؤلاء ويحول دون محاسبتهم.
إن ما يظهر من مواقف يوحي بأن هناك توجه لنفض الغبار عن هذين القانونين وإعادة إحيائهما بصورة مختلفة عن الماضي بعد ان طفح كيل الفساد وبات الخارج كما الداخل يُعاني منه كونه يقف سداً منيعاً أمام ان تأخذ المضادات الحيوية التي تعطى للبنان مفعولها ليشفى من مرضه الاقتصادي والمالي وحتى الإداري، وقد سمع المسؤولون في لبنان الكثير من العتب والاستياء الدولي من الحالة غير الصحية الموجودة في قطاعات الدولة والحث على ضرورة استئصالها لكي لا تذهب المساعدات ادراج الرياح، فبدل أن يستفاد منها في الإصلاحات والمشاريع تذهب إلى جيوب الفاسدين.
ولعل إصرار الرئيس برّي على تكثيف جلسات الأسئلة والاستجوابات والمناقشة العامة لمجلس النواب، يعطي بارقة أمل جديدة من شأنها ان توقف الهدر ونهب المال العام أو على الأقل تحد من تفاقمه، وقد لمس كل من التقى رئيس المجلس هذا الحرص لديه ورغبته في فتح باب المواجهة على مصراعيه والذهاب به إلى الآخر، هذا التوجه لدى الرئيس برّي يعطي قوة دفع في اتجاه معالجة هذه المعضلة المزمنة لكن وبما ان من جرّب المجرب كان عقله مخرب، وان العبرة تبقى في التنفيذ، فإن المواكبين للحراك الاصلاحي يأملون في عدم ارتطام هذا التوجه بأية عراقيل سياسية وطائفية وان يترك لمجلس النواب أخذ دوره التشريعي والرقابي على أكمل وجه قبل خراب البصرة.
وفي هذا السياق، اقتبس من مقال كانت قد كتبته الرئيسة المؤقتة لمجموعة البنك الدولي والمديرة الإدارية العامة للبنك كريستالينا جورجيفا بعنوان ان محاربة الفساد: «ضرورة واضحة وضوح الشمس» وهي تقول ان غياب الشفافية يُشجّع على الفساد، وهو قوة مدمرة، يحرم المرضى من الدواء، ويحول دون بناء المدارس ويؤدي إلى انجراف الطرق تحت الأمطار، ويهدر المال العام، وهو أيضاً يقّوض جهود تحقيق الاستقرار أو منع تكريس العنف والتطرف، وأكثر من ذلك فإنه يبدد الثقة الضرورية بين المواطن والدولة لنجاح التنمية.
إن ما جاء في سياق هذا المقال ينطبق بالتمام والكمال على الواقع اللبناني وهو أمر معاش يومياً ويواجه كل اللبنانيين، ويظهر بما لا يدعو إلى أي شك بأن الفساد يُشكّل علّة العلل في لبنان وان مكافحة هذا «المرض الخبيث» بشكل جدي وجذري تعد مفتاح إعادة بناء الثقة بين المواطن والحكومة، وتشكل مادة أساسية ومهمة في عملية النمو الاقتصادي والازدهار والاستقرار، أما إذا ترك أمر المعالجة في مهب التجاذبات والنكايات والنكد والتموضع الطائفي والمذهبي فإن الأوضاع ستزداد تعقيداً والشرخ بين المواطن وأهل الحكم سيتسع، هذا عدا انعدام الثقة الدولية التي ستؤدي حكماً إلى الامتناع عن مد يد العون والمساعدة وهو ما يؤدي إلى مسّلمة واحدة هي ذهاب لبنان إلى الانهيار الكامل وهو ما تحذر منه أكثر من جهة دولية.
ونصل في هذا العرض إلى خلاصة تشدد على ضرورة عدم انحراف عملية محاربة الفساد باتجاه تصفية الحسابات السياسية ونبش القبور التي لا طائل منها سوى انها تشكّل مادة قوية في التغطية على المكامن الحقيقية للفساد ومن يقوم بهذا العمل، وبالتالي ترك أمر المتابعة والملاحقة وتحديد المسؤوليات للقضاء وحده وليس لأية جهة كانت.